يراه البعض متعجرفا، متكبرا، إن مشى مشى بخيلاء وإن حكى حكى متنطعا، مع أن أجمل ما في الرجل أنه بالغ الذكاء في قراءة محيطه وفي إستقراء ما يرتسم في الأفق وله قدرة رهيبة على أن يغوص في عمق ذاته ليطلع دائما وأبدا بما هو خارج عن المألوف أكثر ما هو خارج عن النص.
ذاك الرجل هو المدرب جوزي مورينيو الذي أراه سابقا بكثير لعصره، فهو يتحدث بالإيحاء وبالرمز وبكل الصيغ الدلالية لغة، من يستطيع أن ينفذ إلى جوهرها إما أنه ينبهر وإما أنه يستمتع بها، ومن عجز عن ذلك يصفه بالجاهل.
مورينيو هو قصة مختزلة لإبداع خارق، هو حكاية ظاهرة تمردت على كثير من الأنماط التقليدية وإليادة مدرب تفوق على نفسه وعلى زمنه أيضا، عندما نجح في أن يتقمص دور المدرب الموسوعي الذي نجح في إحراز الألقاب في كل جزيرة كروية إستوطنها ونجح في وضع أساسات لفلسفة قائمة بذاتها في مجال التدريب وغير هذا وذاك نجح في أن يكون مادة للنقاش توصل إلى أقصى مدى في الجدل والجدال، فالرجل يملك حاسة رهيبة للإصطياد في المناطق المحظورة..
كثيرا ما إنفرد جوزي مورينيو وهو بأنجلترا مدربا للبلوز وبإيطاليا مدربا للإنتير وبإسبانيا مدربا لريال مدريد، بخاصية تحريك ما سكن في مستنقعات الحوار، كثيرا ما كانت له الجرأة ليتمرد على الطابوهات وأيضا ليرمي حجرا في المياه الراكدة، وقد كنت دائما موقنا من أن لمورينيو قدرة رهيبة على أن يرقص جيدا فوق حبال الكلمات مهما كانت رفيعة لأن له معرفة دقيقة بعلم النفس، الذي هو علم بوقع الكلمات وبحكمة الكلام.
وفي الأسبوع الماضي، لم تكن جماهير ريال مدريد راضية عن خسارة الملك أمام ريال بتيس في الجولة 13 من البطولة الإسبانية فالخسارة الثالثة للريال في الليغا كانت صعبة على الهضم، ليس لأن ريال مدريد لم يخسر في موسم الفوز بالليغا سوى مباراتين من أصل 38 جولة، ولكن لأن الخسارة من ريال بتيس وضعت ريال مدريد على بعد 11 نقطة كاملة من الغريم برشلونة، ومن المستفز حقيقة أن يعتزل الملكي المنافسة على اللقب في هذا الوقت المبكر.
عدم الرضا هذا، ترجمته جماهير الريال إلى موجة غضب وإلى هجوم شرس على البرتغالي جوزي مورينيو، وقد إستغلت مباراة الأربعاء الماضي أمام ألكويانو عن إياب الدور 32 لكأس الملك لتوصل الرسالة إلى مورينيو مختومة بالغضب الجارف، ولأن مورينيو لا يتأخر في قراءة الرسائل والرد عليها بطريقته، فقد خرج إلى جماهير الريال يذكرها بجماهير ريال بتيس التي أمضت أسبوعا كاملا في لعن اللاعبين والجهاز التقني بعد الخسارة الفاضحة أمام إف س إشبيلية في ديربي الأندلس إلا أنها بحلول موعد المباراة أمام ريال مدريد نسيت خلافاتها وتجندت خلف فريقها لتقوده إلى تحقيق فوز تاريخي.
لم يقف مورينيو عند حد الإستغراب وهو يعقد المقارنات ولكن عبقريته تفتقت عن أمر عجيب دعا إليه، فقد قال في رسالة الرد على جماهير الملكي: «يوم السبت في تمام الساعة التاسعة والنصف مساء، سيخرج لاعبو ريال مدريد للإحماء قبل مباراة الديربي أمام أتلتيكو مدريد، أدعوكم لأن تكونوا جميعا حاضرين، فسأخرج إليكم وسأعطيكم خمس دقائق كاملة لتفعلوا ما شئتم إنتفضوا، إنفجروا، قولوا ما تريدون، أشتموني بكل العبارات، تخلصوا من كل الحمولات، حتى تكونوا مع حلول الساعة العاشرة ليلا مع فريقكم ريال مدريد، لتقودوه إلى تحقيق الفوز على الأتلتيكو..».
بالقطع لم يكن جوزي مورينيو مازحا أو مزايدا، فقد خرج مساء يوم السبت في اللحظة ذاتها، ووقف أمام الجماهير يسمع أنينها وشكواها وحتى تصفيقاتها، وبعدها ترجل نحو مستودع الملابس ليقول للاعبيه: «لقد أخليت لكم السبيل، لقد أخرجوا كل ما في بطونهم، لم يبق لهم الآن إلا أن يدفعوكم لتحقيق الفوز، فلا تخدلوهم..».
على أرضية ملعب البرنابيو لعب ريال مدريد بصورة جميلة، بل هي الأجمل هذا الموسم وتوج ذلك كله بالفوز على أتلتيكو مدريد ليواصل بشكل رائع سيطرته على ديربي العواصم العالمية، وقطعا كان لكلام مورينيو مفعوله على لاعبي الريال قبل جماهيرهم، فقد عودنا الرجل الساحر والمثير للجدل وللإعجاب على أن يختار كل مرة طريقة ليصل إلى لاعبيه ليستفز ملكاتهم وليدفعهم إلى إخراج أفضل ما عندهم، إنه يفعل ذلك بالمباشرة، بالزجر وبالتوبيخ وبإبداء الإنزعاج، ويفعل ذلك بالإيحاء وبالتلميح، ويفعل ذلك ثارة ثالثة بالإيهام وثارة رابعة بطريقة إياك أعني فاسمعيني يا جارة...
عندما لا تكون كرة القدم علما كاملا، عندما لا تكون علما دقيقا وعندما يكون لها منطقها الخاص بها يصبح ضروريا أن يحسن المدرب ركوب صهوة الكلام ليحقق أهدافه، لا يهمه في ذلك أن يكون ثرثارا أو مسوقا للأوهام أو منعوثا بالجنون وبالعجرفة، بقدر ما يهمه أن يعرف من أين تؤكل الكتف، ومورينيو من المدربين الذين يتقنون أكل الكتف وأكل الدماغ أيضا..
مع مورينيو نرى ماذا يستطيع أن يفعله الكلام الموزون الذي لا يخرج عن عواهنه ليحقق النجاح الآخر للمدرب، فلماذا لا يكون كل المدربين مورينيو؟
جميعا سنقول من المستحيل أن يحصل ذلك، ولكن كلنا يتمنى ذلك..